الشرق الأوسط يدشن حقبة السباق النووي
د. سعيد الشهابي
اعترض عدد من الاساقفة ورجال الكنيسة على حفل تخطط لاقامته كنيسة ويستمنستر في بداية الشهر المقبل اعتبروه إقرارا بالأسلحة النووية التي تعارضها الكنيسة. الحفل مخصص لاستقبال طواقم الغواصات النووية البريطانية بمناسبة مرور خمسين عاما متواصلة على امتلاك المملكة المتحدة ردعا نوويا بحريا.
ويعتبر السلاح النووي من اشد اسلحة الدمار الشامل فتكا اذ يحصد ارواح البشر بدون تمييز ويقضي على النبات وكافة اصناف الحياة. وعلى مدى اكثر من ثلاثين عاما اعترضت مجموعات السلام على تجديد صواريخ «ترايدنت» التي تزود بها الغواصات النووية للاستخدام وسط البحر.
وجاء احتجاج رجال الكنيسة مفاجئا للكثيرين نظرا لما يمثله من اختلاف في اروقة المؤسسة الدينية الانكليكانية، وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات التوسع والتمرد على نطاق اوسع. وعلى مدى العقود السبعة الماضية التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، تصاعدت معارضة السلاح النووي الذي اكتشف العالم خطره الماحق على البشرية بعد استخدامه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي القت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وفي بريطانيا ظهرت منظمات عديدة، اغلبها ذو منحى يساري، تعارض السلاح النووي وفي مقدمتها «حملة مناهضة السلاح النووي» التي هيمنت احتجاجاتها في الثمانينيات على الاخبار اليومية. يومها نظمت الاحتجاجات ضد تطوير سلاح «ترايدنت» ونقلت شاشات التلفزيون مشاهد المحتجين وهم يتسلقون الاسوار الشائكة التي تحيط بقاعدة «غرينهام كومون».
لقد نشأ وعي عالمي ضد انتشار السلاح النووي، ولكن اصرار الدول الخمس الدائمة العضوية على امتلاكه اغضب قطاعات واسعة من جهة، ولكنه من جهة اخرى شجع حكومات عديدة على السعي لامتلاكه. وبرغم العمل الدؤوب للوكالة الذرية للطاقة النووية وسعيها لمراقبة المشاريع النووية في العالم وسعيها لمنع انتشارها، الا ان دولا عديدة سعت لامتلاكه، بدءا بالكيان الاسرائيلي الذي سعى منذ الخمسينيات لامتلاك مشروع نووي بدأه بمفاعل «ديمونا» في صحراء النقب. ويمكن القول ان تراخي المجتمع الدولي، ممثلا بالوكالة المذكورة والسياسة الأمريكية الانتقائية، من بين عوامل انتشار السلاح النووي حتى امتلكته اطراف عديدة بدءا من «اسرائيل» مرورا بالهند وباكستان وكوريا الشمالية. انه وضع لا يساعد على الاطمئنان خصوصا مع تصاعد احتمالات المواجهة في الحقبة الاخيرة بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا. ولذلك لم يعد الوعي العالمي المعارض للسلاح النووي كافيا لمنع انتشاره، خصوصا مع رفض أمريكا منع الكيان الاسرائيلي من تكديس اكثر من 200 من الرؤوس النووية. كما ان تقاعس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تصديها للمشروع النووي الاسرائيلي وفر له الفرصة لتطوير الاسلحة النووية.
يضاف الى ذلك غض الطرف عن الجريمة الاسرائيلية التي ارتكبتها في العام 1981 عندما قصفت الطائرات الاسرائيلية مفاعل «اوسيراك»النووي العراقي مستغلة انشغال ذلك البلد بالحرب مع إيران. وبرغم تدمير المشروع النووي العراقي فقد استمر الضغط الغربي على ذلك البلد حتى بلغ ذروته باتهام العراق رسميا بامتلاك اسلحة دمار شامل، فاستهدف بحرب غاشمة في 2003 اسقطت نظامه بتلك الدعوى التي اثبتت الحرب لاحقا عدم وجود اثر لها في العراق. وفي العام 1984 دمّرت الطائرات العراقية جزءاً من مفاعل بوشهر النووي الإيراني.
يعتبر السلاح النووي من اشد اسلحة الدمار الشامل فتكا اذ يحصد ارواح البشر بدون تمييز ويقضي على النبات وكافة اصناف الحياة. وعلى مدى اكثر من ثلاثين عاما اعترضت مجموعات السلام على تجديد صواريخ «ترايدنت» التي تزود بها الغواصات النووية للاستخدام وسط البحر
وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، قال اليمنيون أنهم استهدفوا المحطّة النووية الجديدة في أبوظبي في الإمارات العربية المتّحدة بصاروخ باليستي. ومن المؤكد ان التغاضي عن السياسات الاسرائيلية وتصرفات كيان الاحتلال كان عاملا في انتشار السلاح النووي، وبذلك اصبحت منطقة الشرق الاوسط ملوثة بهذا السلاح. واعتبرت مواقف الغربيين مصداقا للنفاق الذي ادى لتنامي ازدواجية المعايير والانتقائية السياسية المقيتة، وغياب المبدئية وتغليب منطق المصلحة على القيم والاخلاق والمبادئ. منذ عقود ارتفعت الاصوات المطالبة بافراغ منطقة الشرق الاوسط من اسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها السلاح النووي بالاضافة للاسلحة الكيماوية والبيولوجية. فاستهدف العراق وليبيا وسوريا، بينما لم يطلب من الكيان الاسرائيلي اخضاع اي من منشأته للرقابة الدولية. اما الضغوط التي مورست على إيران منذ اكثر من 15 عاما بشأن مشروعها النووي فلم تتعرض لها دولة اخرى في العالم. وحتى عندما وقعت في 2015 الاتفاق النووي المعروف أبت الولايات المتحدة، بتحريض من «اسرائيل» والسعودية الا ان تعمل لالغائه برغم ان اقراره في البداية كان بموافقة أمريكية في عهد الرئيس السابق باراك اوباما. الاتفاق يمنع بشكل قاطع إيران من توجيه مشروعها النووي لتطوير الاسلحة النووية. وقد التزمت طهران بذلك طوال السنوات الاربع الماضية. واستمرت ملتزمة بذلك الاتفاق وبنوده حتى بعد الانسحاب الأمريكي. وفي مقابلة مع تلفزيون «سي بي اس» الأمريكية يوم الاربعاء الماضي اكد السيد امانو، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية ذلك قائلا: «لم أر اية انشطة مخالفة للاتفاق النووي مع إيران».
برغم ذلك تصر الولايات المتحدة على فرض المزيد من العقوبات على الجمهورية الإسلامية. والهدف واضح: اسقاط نظامها الإسلامي بسبب رفضه الاعتراف بالكيان الاسرائيلي او التخلي عن حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. ولم يعد سرا القول ان المشروع النووي الإيراني كان الضحية الاولى للسياسة الإيرانية تجاه «اسرائيل»، فلو غيرت طهران موقفها لتم رفع الضغوط عنها وعن مشروعها النووي.
التطبيع بين الانظمة العربية والكيان الاسرائيلي هو عنوان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الاوسط. وحيث ان ثلاث دول خليجية على الاقل غيرت سياستها في السنوات الاخيرة وتوجهت للتطبيع مع «اسرائيل» فقد اصبحت محمية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وجاء مؤتمر اوسلو الشهر الماضي ليكشف مدى التغير في التوازنات والعلاقات السياسية في المنطقة العربية، وكيف ان بعض الانظمة مستعد للمضي بدون توقف في مشروع التطبيع من جهة واستهداف إيران من جهة اخرى. هذا الاستهداف مطلوب من أمريكا وليس بسبب سياسات إيران تجاه العالم العربي. وحيث يصر أغلب الإسلاميين على مواقفهم الثابتة من القضية الفلسطينية، فانهم مستهدفون اينما كانوا. ويكفي الاشارة الى ما يجرى في ليبيا هذه الايام، حيث يقود الجنرال خليفة حفتر حملة عسكرية واسعة النطاق، بدعم اماراتي ـ مصري للسيطرة على العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة لاخلائها من المجموعات الإسلامية التي تناكف «إسرائيل».
لكن الامر الاخطر فتح المجال لسباق نووي غير مسبوق في الشرق الاوسط، وذلك باقرار التوجه السعودي لامتلاك التكنولوجيا النووية. الهدف المعلن من الجانب السياسي رغبة المملكة في تعدد مصادر الطاقة، اما الهدف الحقيقي كما يراه المراقبون فهو السباق مع إيران. هذا السباق يعني فتح الخزينة السعودية مجددا لنهب ما تبقى من اموال نفطية احتياطية.
فتكاليف المشاريع السعودية تبلغ اضعاف ما تدفعه دول اخرى لمشاريع متشابهة. ولا يجد الغربيون غضاضة في ذلك ما دامت محتويات الخزينة السعودية ستنتقل اليهم. ويتردد ان مفاعلا نوويا محدود السعة على اطراف مدينة الرياض يقترب من الاكتمال على ان يكون باكورة المشاريع النووية السعودية. وقبل شهرين أصدرت لجنة الرقابة والإصلاح داخل مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس) تقريراً مثيراً للجدل يتناول برنامج الطاقة النووية السعودي، التقرير استند على تسريبات عدّة تتحدّث عن عزم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، السماح لشركات أمريكية بتزويد المملكة العربية السعودية بتكنولوجيا نووية حسّاسة لدعم هذا البرنامج، تقوم على تشجيع بناء عشرات محطّات الطاقة النووية في السعودية والمنطقة، وهو ما يمكن وصفه بزيت يُصب في منطقة مُشتعلة بالأساس، نظراً إلى ما يشكّله هذا التوسّع في إنشاء محطّات للطاقة النووية من تحدّيات أمنية جدّية، ولا سيّما إذا كان نقل المعرفة والتكنولوجيا النووية غير مُقيّد ومُراقب.
كاتب بحريني