ما صِحّة التّقارير الغربيّة التي تتحدّث عن خِلافاتٍ بين العاهل السعوديّ ووليّ عهده؟ وما هي أسباب تَغيُّب الأخير عن استِقبال والده على أرض المطار؟ وهل بات قرار التنحّي عن العرش وشيكًا؟
حظِي تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانيّة أمس الثلاثاء تناول وجود خِلافات بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ونجلِه وليّ عهده الأمير محمد بن سلمان، حول بعض القضايا الداخليّة والخارجيّة باهتمامٍ كبيرٍ في بعض وسائل الإعلام العربيّة، ولكن إلقاء نظرة فاحِصة على المعلومات التي وردت فيه تُعطِي المرء انطباعًا بعدم دقّتها من الوهلة الأُولى، لأنّها تعكِس عدم دِراية بآليّات العمل داخِل الأُسرة الحاكِمة السعوديّة.
التقرير تحدّث عن اعتراض العاهل السعوديّ على مرسومين أصدرهما الأمير بن سلمان بتعيين شقيقه خالد بن سلمان، السفير السابق للمملكة في واشنطن، نائبًا لوزير الدفاع (أيّ نائبًا له) وتعيين السيدة ريم بنت بندر بن سلطان سفيرة في واشنطن مكانه، أثناء تواجد والده في مصر، وتعيينه نائبًا للملك مثلما تجري العادة في هذه الحالة، وأشارت أيضًا إلى خِلافٍ آخر بينهما حول كيفيّة التّعامل مع أسرى حرب اليمن، وموقف السعوديّة من الاحتجاجات في الجزائر والسودان، وهذا تقدير موضع الكثير من علامات الاستفهام.
الأمير محمد بن سلمان هو الحاكم الفِعليّ للمملكة العربيّة السعوديّة في الوقت الرّاهن، بسبب تدهور حالة والده الصحيّة، وعدم قُدرته على التّركيز، وغِيابه عن المشهد السياسيّ بشقّيه الداخليّ والخارجيُ باتَ من الأُمور المعروفة التي يلمسها زوّار المملكة واللّقاءات البروتوكوليّة التي يجرونها معه، ويقتصِر مُعظمها على “المُجاملات” وشُرب القهوة، ولفَتراتٍ قصيرةٍ جدًّا، ومن أجل التقاط الصور، حسب ما أكّد لنا أحد المسؤولين الذي كان مُرافقًا لرئيس دولته الذي زار المملكة مُؤخَّرًا.
فليس من تقاليد الحُكم في السعوديّة أن يُخالف وليّ العهد الملك، ويتّخذ أيّ قرار دون مُوافقته، حتى في الأُمور الثانويّة، لأنّ تجاوز الملك يُعتبر انقلابًا، ولو كان الملك سلمان في قمّة لياقته الصحيّة لما سمح بمِثل هذا التّجاوز مُطلقًا، وأقدم على عزل وليّ العهد فورًا، وهو الذي جرى تسجيل “سابِقتين” بعزل وليّين للعهد في الأشهر الثّلاثة الأُولى من حُكمه، وكان الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز مُقيّدًا لحواليّ عشر سنوات عندما كان وليًّا للعهد رغم مرض شقيقه الملك فهد وفُقدانه للذاكرة بسبب أزمة قلبيّة، وكان يخشى في أيّ لحظة صدور مرسوم بإقصائه من ولاية العهد تطبيقًا للنّظام الأساسيّ للحُكم الذي وضعه الملك فهد في بداية حُكمه، وتردّد أقوال كثيرة أنّ هذا التّغيير الذي أعطى الملك صلاحيّة تغيير وليّ العهد، وتعيينه، كان تمهيدًا لتولّي ابنه الأصغر الأمير عبد العزيز مكانه، ولكن المرض لم يُمهله، وها هو التّاريخ يُعيد نفسه في زمن الملك سلمان.
تعيين الأمير خالد بن سلمان نائبًا لوزير الدفاع رغم حداثة سنّه (نفس السن الذي كان عليه شقيقه الأكبر عندما تولّى وزارة الدفاع وأصبح وليًّا لوليّ العهد) جاء تمهيدًا لتولّيه ولاية العهد في حال جرى اتّخاذ القرار “المُنتظر” في أيّ لحظة، وهو إعفاء الملك سلمان من جميع مهامه بسبب المرض، وتولّي نجله وليّ عهده العرش، أمّا تعيين الأميرة ريم بنت بندر سفيرة للمملكة في واشنطن، فيَأتي لأسبابٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ، داخليّة، مُكافأةً للأمير بندر، والدها، على مُبايعته للأمير محمد بن سلمان ولي العهد منذ الدقيقة الأولى، ودعمه له دون تحفّظ في منصبه الجديد، وخارجيًّا، لمُحاولة الرّد على الحَملات الإعلاميّة الغربيّة المُتضامنة مع النّاشطات السعوديُات المُعتقلات في السّجون السعوديّة، وأبرزهن لجين الهذلول، ومُحاولة الإيحاء من خِلال هذا التّعيين بتغيّر نظرة الأُسرة الحاكِمة للمرأة، وإظهارها بمظهر الدولة الحديثة بإعطاء المرأة دورًا في المناصب الرئيسيّة التي غُيِّبَت عنها لعُقود.
تظل هُناك نقطة لافتة جرى استخدامها لتعزيز رواية صحيفة “الغارديان” حول هذه الخلافات، ومُحاولةً لتأكيد مِصداقيّتها، وهي غِياب وليّ العهد السعوديّ عن استقبال والده بعد عودته من زيارته الخاطِفة لمِصر للمُشاركة في قمّة الحوار العربيّ الأوروبيّ في شرم الشيخ، وهو غياب أكّدته وسائل الإعلام السعوديّة الرسميّة التي تذكر دائمًا أسماء الأُمراء المُستقبلين في المطار بالتّفصيل المُمل، ولكن هذا الغِياب ربّما يعود لأسبابٍ “أمنيّةٍ” بحتة، لأن ولي العهد السعوديّ يُحيط نفسه، وتحرّكاته، بإجراءاتٍ أمنيّةٍ صارمة تَحسُّبًا لأيّ خُطط من قبل خُصومه لاغتياله، سواء داخل المملكة أو خارجها بعد اعتقاله لعدد من الأُمراء من أبناء عُمومته الذين لم يُبايعوه، ويُعارضون ولايته لولاية العرش، وتهميش مُعظمهم، ومن مُختلف الأجنحة، إن لم يكُن الغالبيّة منها.
من غير المُستبعد أن يكون مُستشارو وليّ العهد السعودي مصدر هذه التّسريبات حول الخِلافات، وربّما بإيعازٍ منه، للإيحاء بأنّ العاهل السعوديّ سليمٌ ومُعافى، وما زال يُمسِك بزِمام الأُمور، وهذا غير صحيح، وخلق بلبلة إعلاميّة مقصودة لضرب مصداقيّة الإعلام الخارجيّ الذي يتّخذ مُعظمه مواقف انتقاديّة شرسة لوليّ العهد مُنذ اتّهامه بالوقوف خلف عمليٌة الاغتيال البَشِعة للصحافي جمال خاشقجي في القنصليّة السعوديّة في إسطنبول.
ربّما يُفيد التّذكير بأنّه عندما اشتدّت حملة الانتقادات لوليّ العهد السعودي بسبب دعمه لصفقة القرن، جرى إصدار بيان باسم العاهل السعوديّ يُؤكّد دعمه لقيام دولة فلسطينيّة مستقلة عاصمتها القدس، وحق العودة للاجئين وتوجيه دعوة للرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الرياض، وترتيب استقبال حافل له، وأكّدت مصادر سعوديّة أنّ الأمير بن سلمان كان خلف إصدار هذه التّصريحات لتخفيف حدّة الانتقادات الداخليّة والعربيّة، لصفقة القرن المَشبوهة والمرفوضة.
خِتامًا نقول مُجدّدًا أن الأمير بن سلمان هو الحاكم الفِعليّ للمملكة، وهو صاحب القرار الأوّل والأخير فيها حاليًّا، وكان خلف جميع المراسيم الملكيّة الأخيرة، بِما فيها تعيين الوزراء، وكِبار المسؤولين، ووضع السّياسات الداخليّة والخارجيّة، ومِن غير المُعتقد أنّ والده كان على عِلمٍ بها، وإن كانت صدرت باسمه، وأيّ حديث عن خِلافات بين الأب والابن مُجرّد مُحاولة لتضليل بعض وسائل الإعلام، والغربيّة عُمومًا، وتحويل الأنظار عن القضايا الأكثر أهميّة، خاصَّةً أنّ أيّام المملكة المُقبِلة حُبلَى بالمُفاجآت.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”